17 - 07 - 2024

ترنيمة عشق | قهْر الرّجال..

ترنيمة عشق | قهْر الرّجال..

 في طريقي لميدان "طلعت حرب" بالقاهرة.. مررتُ بمنطقة "السّيدة عائشة" و"قلعة صلاح الدّين الأيوبيّ" وعدد من المساجد التّاريخية والأثرية ثم منطقة "باب اللوق" وصولًا لميدان التّحرير.

أهوى التّجوال في القاهرة - التي لم أزر كثيرًا من أماكنها للأسف - وأبقىٰ أسيرة مطالعة بل معانقة الطّريق على الجانبين لا سيما المباني والأشجار والمقابر والصّحاري واللافتات وزرقة السّماء المطرزة بالرّكام الأبيض كَثُر أو قَل.. لذا يستهويني ركوب الحافلة المكيفة لقطع تلك المسافات الطّويلة.

مِن المقعد الخلفي تناهىٰ لمسامعي صوته الهادئ الذي يكسوه كثيرٌ من الشّجن.. كان الرّجل يحكي: 

هذه "قلعة صلاح الدّين الأيوبي".. وهذا "مسجد الرّفاعي".. وذاك "مسجد السّلطان حسن".. وأمامنا "قصر عابدين".. وتلك "وزارة الدّاخلية" بمبناها الأثري الجميل قَبل أن تنتقل بموظفيها لمكان آخر.

بفضولٍ لم أستطع كبحه.. التفتُ ورائي.. وابتسمتُ.. فقد سُررتُ بذلك الأب الواعي الحريص على تلقين ابنه الجالس جواره معالم "القاهرة" التّاريخية.

الأب لا يتعدى عمره الأربعين رغم خطوط الشّيب التي تناوره محاولة أن  تغزو ما تبقّىٰ من شعر رأسه (!!) على استحياء.. وولده الذي يَغُذ الخُطىٰ نحو العاشرة من عُمره الغضّ.

لمح الرّجل في عيني نظرة امتنانٍ وإكبارٍ تقديرًا لما يفعله بذاكرة صغيره من توجيه وترسيخ للتاريخ والفن والأصالة.. ولكن ما إن حانت مِنّي التفاتة نحو وجهه حتىٰ خابتْ ابتسامتي وشحُبتْ.. وما لبثَتْ أن توارتْ خلف غلالة دمع كافح الأب جاهدًا كي لا يسقط من عينيه هربًا من الشّعور بالهزيمة أمام ولده.. ثم تمالك زمام أمره مُتصنّعًا الجَلَد قائلًا: (احفظها براسك قبل ما يهدّوها يا ابني).

طعنتني مقولته ولم أدرِ بنفسي إلا وأنا أسأله: (إيه الحكاية ؟!).. قال: (أسكن بمنطقة "السّيدة زينب".. وبيتي في قائمة الإزالة.. البيت ورثته عن جَد والدِي.. ولا أتصور حياتي بعيدًا عن "السّيدة" مسجدًا وجيرة وذكريات.. ولو خرجت هاموت.. زي الزّرع اللي بيقلعوه من جذوره.. ).

أجهش الرّجل ببكاءً - يقطع نياط القلب - كالثّكالىٰ.. وتملّك الضّيق والغم جميع الرّكاب الذين كانوا ينصتون لشرحه بحزن.. وندتْ عن البعض شهقات وجع دفين.. وفجأة علا صوت أحدهم: (محدش يتكلم في السّياسة يا جماعة).

امتلأ حلقي بالغَصص.. وهصرني الألم والحسرة.. وقفز لذهني لحظتها معنى وصورة جديدة لحديث النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- حين استعاذ ربَّه من "قهر الرّجال".. لعل خاطرتي تلك تُصادف تفسيرًا واجنهادًا جديدًا يحتمله الحديث النّبويّ الشّريف.. أو هكذا أزعم. 

حينها أدركتُ أنّ الوجع الحقيقيّ: أن تملك وعيًا بلا حيلة ولا قُدرة على التّغيير.. وقد يتوجّب علينا ذات يوم أن نَحذو حَذو الرُوائي التّشيكي الألماني "كافكا".. حين أَوصَىٰ بحرق كُتبهِ لأنها لم تُصب هدفًا أو تبني وطنًا !! 

***

في "اليابان" أرادوا تطوير إحدى الشّوارع.. فأرسلوا لنحّات مصري يسكنه يسألونه نُصحًا وإرشادًا.. ويستأذنونه !!

القصّة الواقعية تحكي أن المسؤولين هناك علِموا أن فنانًا يقطن تلك المنطقة ويتريّض فيها كل صباح قبل أن يبدأ عمله وفنه.. فخشيَتْ السُّلطات إنْ هي قامت بتغيير معالم الحيّ أن تجرح أو تشوه "ذاكرة الفنان البصرية" (!!) التي اعتادت المكان بنمط وشكل معين.. مما قد يؤثر على حالته النّفسية وبالتّالي على إبداعه الفنّيّ !! فأرفقتِ الجهة المختصّة خطتها مع طلب للنحات بأن يضع لها تصورًا مناسبًا يليق بالحيّ وينسجم مع حالته النّفسية.. إن وجد ضرورةً لتطوير الشّارع !!

لن أعلّق على القصّة.. ولكن حمدتُ الله أن هذا الفنان "الصّعيدي" عاش حياته باليابان ولم تعرفه "مصر" حتى وفاته في شارعه الأنيق هناك.. وأظنها لا تريد أن تعرفه كي لا ينفضح أمرها أمامه.
----------------------------
بقلم: حورية عبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | حتىٰ أنت يا بروتس ؟!